ما أحوج شباب الإسلام إلى استحضار سير العظماء من الشباب، واستبدالها بسير
العابثين من الرياضيين والممثلين والمغنين وأضرابهم؛ فإن من أسباب تأخر
المسلمين إهدار طاقات الشباب، وإفسادها بالشهوات، وإبراز القدوات السيئة
للشباب عبر الإعلام.
وما أحوج الآباء والمربين إلى إبراز هذه النماذج الوضيئة من الشباب لتكون قدوة لشباب اليوم.
وهذا
حديث عن شاب عطرت سيرته الكتب، وملأت أخباره مجالس العلم والذكر، استثمر
شبابه فيما ينفعه فعاد نفعه عليه بالذكر الطيب، والرفعة والمجد، وعلى أمته
بما خلف من علم غزير تنهل الأمة منه منذ قرون ولم ينفد.
ذلكم هو عبد
الله بن عباس رضي الله عنهما، ولد في الشعب أثناء حصار قريش بني هاشم قبل
الهجرة بثلاث سنوات، ولم يهاجر هو وأمه للمدينة إلا بعد فتح مكة وعمره عشر
سنوات، وقال: ((كنت أنا وَأُمِّي من الْمُسْتَضْعَفِينَ، أنا من
الْوِلْدَانِ وَأُمِّي من النِّسَاءِ)) رواه البخاري.
وفي حجة
الوداع كان قريبا من البلوغ، يقول رضي الله عنه: ((أَقْبَلْتُ وقد
نَاهَزْتُ الْحُلُمَ أَسِيرُ على أَتَانٍ لي وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى)) رواه البخاري. وتوفي النبي صلى الله
عليه وسلم وعمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة فقط.
نبوغ مبكر
هذا
الغلام كان له شأن عظيم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلامات النبوغ
والنجابة بدت عليه منذ صغره، في سرعة بديهته، وحضور ذهنه، مع قوة في
المناقشة والمناظرة، يزين ذلك أدب جم يأسر القلوب، ويستولي على النفوس، صلى
مرة آخر الليل خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذ بيده وجره وجعله حذاءه
(بجانبه)، فلما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على صلاته تراجع ابن عباس،
فلما سلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما شأني أَجْعَلُكَ حذائي
فَتَخْنُسَ؟ فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ ينبغي لأَحَدٍ أَنْ يصلي
حِذَاءَكَ وَأَنْتَ رسول اللَّهِ الذي أَعْطَاكَ الله؟ قال: فَأَعْجَبْتُهُ
فَدَعَا اللَّهَ لي أن يزيدني عِلْماً وَفَهْماً)) رواه أحمد. هذا الجواب
وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو أقل.
ومن عادة الشباب غفلتهم عن المستقبل، ورؤيتهم للحاضر، ومحبتهم للهو مع أقرانهم، وشعارهم: عش وقتك، ولا تنظر أمامك.
ومن
خرج عن هذه العادة فنظر بعين وقته للمستقبل، واشتغل بما ينفعه؛ نبغ من بين
أقرانه، واستقامت له أحواله، وكان ذا شأن في الناس، وهكذا كان الفتى ابن
عباس رضي الله عنهما؛ فإنه نظر بعين وقته لمستقبله، ولم يغتر بواقع حاضره،
فصان نفسه عن البطالة والعبث، وأقبل على الجد في الطلب، بنفس لا تعرف
السأم، وهمة لا يخلطها الملل، قال رضي الله عنه يحكي قصة طريفة له:
((لَمَّا تُوُفِّيَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قلت لِرَجُلٍ من
الأَنْصَارِ: يا فُلَانُ، هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النبي صلى الله
عليه وسلم فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، فقال: واعجبا لك يا بن عَبَّاسٍ!
أَتَرَى الناس يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وفي الناس من أَصْحَابِ النبي صلى
الله عليه وسلم من تَرَى؟ فَتَرَكَ ذلك وَأَقْبَلْتُ على الْمَسْأَلَةِ،
فَإِنْ كان لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عن الرَّجُلِ فَآتِيهِ وهو قَائِلٌ
فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي على بَابِهِ فَتَسْفِي الرِّيحُ على وَجْهِي
التُّرَابَ فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي فيقول: يا بن عَمِّ رسول اللَّهِ ما جاء
بِكَ؟ ألا أَرْسَلْتَ إلي فَآتِيَكَ؟ فَأَقُولُ: أنا أَحَقُّ أن آتِيَكَ،
فأسأله عن الحديث قال: فَبَقِيَ الرَّجُلُ حتى رَآنِي وقد اجْتَمَعَ الناس
عَلَيَّ فقال: كان هذا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّي)) رواه الدارمي وصححه
الحاكم وقال: على شرط البخاري.
وكان له منهج في طلب العلم يدل على
الحرص والتوثيق، وتنويع مصادر العلم، والإكثار من الشيوخ؛ ولذا أخذ عن كثير
من كبار الصحابة علمهم، فاجتمع له من العلم ما لم يجتمع لغيره، يقول رضي
الله عنه: ((إِنْ كُنْتُ لأَسْأَلُ عَنِ الأَمرِ الوَاحِدِ ثَلاَثِيْنَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).
وقِيلَ
له: ((كَيْفَ أَصَبْتَ هَذَا الْعِلْمَ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَؤُولٍ،
وَقَلْبٍ عَقُولٍ)). وقال: ((كُنْتُ أَلْزَمُ الأَكَابِرَ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالأَنْصَارِ)).
كبر الغلام وكبر معه عقله، واتسع علمه، حتى أدرك
في العلم من سبقوه من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وعجبوا من علمه، وأقروا
له به وهو شاب في العشرين أو دونها، حتى قال له عمر رضي الله عنه: ((لقد
علمت علماً ما علمناه)). وقال ابنِ مَسْعُوْدٍ رضي الله عنه: ((لَوْ
أَدْركَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْنَانَنَا مَا عَشَرهُ مِنَّا أَحَدٌ)).
وكان
من سياسة عمر رضي الله عنه في إدارة الدولة اهتمامه بذوي العلم والرأي دون
السن والنسب، فيولي الأكفاء ويقربهم ويدنيهم، فلما رأى كمال عقل ابن عباس،
وسداد رأيه، وغزارة علمه؛ جعله من خاصته، واتخذه بطانة له، وقدمه على
الشيوخ الكبار في الرأي والمشورة وهو شاب صغير، قال يَعْقُوْبُ بنُ زَيْدٍ:
((كَانَ عُمَرُ يَسْتَشِيرُ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي الأَمْرِ إِذَا أهمَّه)).
ويبدو
أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جعل ابن عباس يلازمه للمشورة؛ ولذا لما مرض ابن
عباس زاره عمر وقال: ((أَخَلَّ بِنَا مَرَضُكَ، فَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ)).
ولأجل هذه الحظوة لابن عباس عند عمر، وكثرة
مشاورته له وهو شاب صغير اعترض بعض كبار الصحابة؛ لأنهم قارنوا سنهم بسن
ابن عباس، وخبرتهم في الحياة بخبرته، فأراد عمر أن يثبت لهم عمليا لم قدمه
وجعله في مجلس الكبار دون غيره من أقرانه، قال ابن عَبَّاسٍ رضي الله
عنهما: ((كان عُمَرُ يُدْخِلُنِي مع أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فقال بَعْضُهُمْ:
لِمَ تُدْخِلُ هذا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فقال: إنه
مِمَّنْ قد عَلِمْتُمْ، قال: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي
مَعَهُمْ، قال: وما رُئِيتُه دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إلا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي،
فقال: ما تَقُولُونَ في (إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ * وَرَأَيْتَ
النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا)[النَّصر:1-2] حتى
خَتَمَ السُّورَةَ فقال بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ
وَنَسْتَغْفِرَهُ إذا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وقال بَعْضُهُمْ: لَا
نَدْرِي، أو لم يَقُلْ بَعْضُهُمْ شيئا، فقال لي: يا بن عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ
تَقُولُ؟ قلت: لَا، قال: فما تَقُولُ؟ قلت: هو أَجَلُ رسول اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ الله له (إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ)
فَتْحُ مَكَّةَ فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)[النَّصر:3] قال عُمَرُ: ما
أَعْلَمُ منها إلا ما تَعْلَمُ))رواه البخاري.
وكان بعض جلة
التابعين يلازم ابن عباس وهو غلام دون كبار الصحابة، وما ذاك إلا لعلمه،
قُيل لِطَاوُوسٍ: ((لَزِمْتَ هَذَا الْغُلامَ، يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ،
وَتَرَكْتَ الأَكَابِرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه
وسلم؟ فَقَالَ: ((إِنِّي رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم إِذَا تَدَارَءُوا فِي شَيْءٍ صَارُوا إِلَى
قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ)). وعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ((مَا سَمِعْتُ فُتْيَا
أَحْسَنَ مِنْ فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ، إلا أَنْ يَقُوْلَ قَائِلٌ: قَالَ
رَسُوْلُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).
وما حاز ابن
عباس هذا العلم الغزير، ولا نال هذه الحظوة الكبيرة عند سادة الأمة من
الصحابة والتابعين إلا لأنه حفظ وقته من الضياع، وصان شبابه عن اللهو
والغفلة، واستثمر ما أعطاه الله تعالى من قدرات عقلية فيما ينفعه، فعاد
نفعه على نفسه بعلم هو أنفس علم وأجله، وهو العلم بكتاب الله تعالى وبسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم، فأورثه خشية وخشوعا، ورقة لقلبه وصلاحا حتى قال
أَبِو رَجَاءٍ العطاردي رحمه الله تعالى: ((رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ
وَأَسفَلَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّرَاكِ البَالِي مِنَ البُكَاءِ)).
وقال ابْنُ أَبِي مليكة رحمه الله تعالى: ((صحبت ابن عباس من مكة إلى
المَدِيْنَةِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ...وقَرَأَ:
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ
تَحِيدُ)[ق:19]، فَجَعَلَ يُرَتِّلُ وَيُكْثِرُ فِي ذَلِكَ النَّشِيْجَ)).
ونفع
الله تعالى بعلمه الأمة فهي من عصره إلى يومنا تقتات على علمه، وتستنير
بفقهه، فهو قدوة لكل شاب مسلم، ونعم القدوة صحابة رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ فاللهم ارض عنهم، واجمعنا بهم في الآخرة (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ
مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:55].
ـــــــــــــــــــــــــــ
إبراهيم بن محمد الحقيل (بتصرف يسير)